موقف

 أمُر أحيانًا بمواقف ما، لا اعلم في ذاتي كيفية تحديد موقف شخصي منها: هل هي مواقف مضحكة هزلية، أم حزينة، ام باهتة، ام غيرُ ذات معنى أصلاً؟ منذ اسبوع اتفقت على اللقاء مع صديقة للذهاب الى نقاش كتاب مهم جدا أصدرته نانسي فرايزر مؤخرا. كنت متحسما جدا لأن فرصة رؤية نانسي فرايزر مباشرة، المفكرة النسوية ذات الأفكار الشجاعة والاستثنائية، ستُتاح لي أخيرًا. في نفس الوقت، وبشكل غريب، كان نفس الاحساس يعتريني تقريبًا حول لقاء الصديقة التي اقترحت الذهاب لحضور حفل توقيع الكتاب ونقاشه. كانت من يهود شرق اوروبا ولكنها تعلم عن شمال افريقيا وعن تاريخ اليهود السفركديم اكثر مني بأشواط، بشكل يصيبني بالاحراج وبالخجل، وباهتزاز شامل في ثقتي بالنفس. ذهبت قبل اللقاء الى حانة ايرلندية متواضعة على بعد بعض جادات من تايمز سكوار. كانت الفكرة أن أقوم بالحصول على بعض المدد من الكحول كي يساعدني ذلك في خلق شجاعة مزعومة وحضور وهمي اجابه به حضور الصديقة ذات الشخصية القوية والاستثنائية، خريجة جامعة كورنيل. ذهبت، واحببت المكان الذي أزوره لأول مرة فعلاً، حانة بسيطة غير مزدحمة ومرتادوها ذوو سحنات منشرحة، أي أنها بالنسبة لي على الأقل، الحانة الكاملة. أستطيع الجلوس هنا بكل أريحية دون عناء محاولة الحديث للنادلة وسط صف طويل أو ضجة عارمة، بل انها تتجه لي مباشرة وتسألني عن طلبي بكل لطف. كنت سعيدًا حينها، الى حين وقوع ما لا أريده، وما لا أتمنى حصوله لأي شخص آخر على هذا الكوكب في هكذا مواقف. أحتاج أن أذهب الى الحمام حالا، بعجلة كبيرة، هكذا، فجأة. كانت الحاجة لقضاء الحاجة أكبر كوابيسي متى كنتُ خارج البيت، لأنني أتقزز من المراحيض العمومية، ومن الحمام الخاص بالحانة او المطعم أو أي مكان لا اعرفه جيدا، بل انني أعتبر ان الوطن هو المكان الذي ترتاح في مرحاضه. اعذر معياري البسيط، لكنه محددٌ وفيصلي بالنسبة لي. مالذي يمكن أن أقوم به؟ لم يكن لي من خيار سوى المجازفة، تشجعت وذهبت نحو حمام الحانة، وسعدت سعادةً كبيرة حين اكتشفت أنه نظيف فعلا، وان رائحة عطر لذيذ ما تنبعث منه، وان الحانة تعتني بهذا الركن جيدا في ذكاءٍ أقدره. عند مغادرتي الحمام، ووسط انتشائي بخروجي المفاجئ من هذا المأزق "الطبيعي" الذي يؤرقني دومًا، نسيتُ تماماً أنني أرتدي حمالات بنطلون عوضًا عن الحزام او الزنار المعتاد. أحببت الحمالات لأنها طالما بدت استثنائية بالنسبة لي، خاصة ان كانت جلدية، كي يفاجئني أحد أطرافها المعدنية بالقفز بغتةً، والارتداد في الاتجاه المعاكس لسروالي، مرتفعًا في السماء ومحدثًا قرقعة مدوية، وسط مشاهدة مرتادي الحانة المستغربين، كي أسقط على القاعة، باحثا عن القرط الذي ارتد بشدة في السقف، وأجده لحسن الحظ، وأحاول اصلاح ما امكن اصلاحه كي لا يسقط سرولي وتكون الفضيحة الكبرى والاحراج الأعظم. حاولت تجاهل الأمر، وأنا أمشي في ممر الحانة متمنيا أن تبتلعني الأرض دون رجعة، كي أجد النادلة في حالة من الارتياب: - هل عدت؟ يا الهي ، لقد ظننتُ انك قد تركت محفظتك وحافظة نقودك - ومعطفك وغادرت! - لا، عذرًا، لقد ذهبتُ للحمام قامت باغماض عينيها لوهلة ثم ابتعدت وكانها ارتاحت لانزياح حمل البحث عن صاحب هاته الاغراض التي ظنت أنه غادر. وجدتُ فتاة مجعدة الشعر الطويل حتى اسفل ظهرها، ممتلئة، ذات ابتسامة عريضة، قد جلست في الكرسي المحاذي لي تماماً في الفترة التي كنت فيها بصدد "قضاء الحاجة"، تدخلت، دون مقدمات، قائلة: - سيدي، حين تغادر مقعدك في حانة ما، من العادة أن تضع السوسر الموجود تحت كأسك فوقه، او منديلك على قمة الكأس. تلكَ اشارة لأنك "ستعود قريبًا". - اه.. شكرًا... لم أكن أعلم ذلك صراحةً، لكنني سأقوم بذلك بالتأكيد في المرات القادمة. تضاعف احراجي مرة أخرى، وأنا ارى هنا انني لا أفهم في اتيكات الحانات أصلاً، بعد أن ظننت أنني اصبحت مرتادا من الطراز الرفيع، حتى انني أحسستُ لوهلة أن الفتاة الدافئة التي اسدتْ لي النصيحة قد أحست بالاحراج بدورها لما رأت الاحراج باديًا علي، فحاولت معالجة ذلك قائلة: - never mind, your next drink is on me صُدمتُ بدعوتها، لأنها فيصلية جدا. هنا، الدعوة لكأس تعني الدعوة الى الحديث، الى التعارف، الى الود، والى كل ما قد يمكن. من النادر جدا أن تقوم امرأة بالمبادرة بذلك، على الرغم من سنوات التحرر العديدة، فلا تزال هاته "الحركة" رجالية صرفة. امام الاحراج، والاضطراب، والصدمة، كان جوابي كالعادة، كارثياً: سأغادر المكان خلال خمس دقائق، أعتذر، لكن شكرًا لك على كل حال. لقد كان جوابي كارثيا بكل ما للكلمة من معنى فعلا.. حتى انني رأيت سحنة الفتاة قد انقلبت تمامًا، لعلها تقول: هذا الرجل فاشل علائقيا وفاشل تماما على مستوى "الاتيكيت"، فهو لا يحسن ترك اشارة لعودته، ولا يحسن حتى التعامل مع دعوة استثنائية! غادرت، وانا اتمنى للمرة الثالثة على التوالي، أن تبتلعني الارض. اخترقت ساحة تايمز سكوار والاضواء تحتلني من كل جهة ببريق مخيف، وكأنها تكشفني، تعريني، وتعري ضعفي وهشاشتي الشديدتين امام كل شيء. احاول اختراق الناس، تجاوزهم، المرور بينهم، أحاول أن امشي في الشارع كأنني غير موجود تمامًا، متمنيا ألا يراني أي شخص، أن يطئني الناس باقدامهم، ان تطأني السيارات بعجلاتها، وأن اتحول الى فأر من فئران نيويورك الكثيرة. بلغت مكان حفل توقيع الكتاب، كان قاعة فسيحة جدا ذات سقف في غاية الارتفاع، بينما ترتفع ايضا رفوف عديدة من الكتب. اعجبتُ بالمكان حد الانبهار، حتى انني نسيتُ لوهلة كل المواقف التي مررتُ بها في الساعة الفارطة. جلست على كرسي جانبي، انتظرت طويلا قدوم صديقتي التي اتفقتُ معها على اللقاء هنا، لكنها تأخرت. خيرتُ الاتصال بها. كان هاتفها مغلقًا، لعلها ستأتي، أو لعلها، تمرُ بموقفٍ محرج أيضًا، وقد نجحت في جعل الأرضِ تبتلعُها.







Comments

  1. جميل جداً ❤️
    حمالات البنطلون ذكرتني بالعزيز طارق، صحيح أنها تعطي مظهر جد متفرد ولافت.

    ReplyDelete
  2. I completely understand how you feel when you go through an inner struggle with yourself, but I hope one day you realize just how smart, brave, and a wonderful writer you are. The state of vulnerability is something that everyone must go through in the battle of life. I wish peace and tranquility for your soul. Keep going, and don't forget to wear suspenders; they give you a unique character, just like your presence.♥️

    ReplyDelete
  3. انتهيت من قراءة رواية هرب و فيها كتابة جيدة و وصف متميز للحياة الطلابية و لبوزيد، التزمت بوصيتك و هي أن لا اهتم بالحلال و الحرام و فعلا لم يزعجني وصف النكاح أو المشروب لكن أزعجتني الجرأة على الإله و غياب المعنى... انتظرت المعنى حتى الصفحة الأخيرة لكن لا معنى، حتى الثورة أفرغتها من المعنى ، نضال وليد بلا قيمة و قلم حمادي الخليفي... كذلك

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

تحت الضغط

هلع

وِحدة