ليلة طويلة
البارحة، كانت ليلة مرعبة حقا.
بدأتُ، منذ مطلع هاته السنة، محاولات جدية ومتتالية لمحاربة الاكتئاب العميق الذي أمر به والذي دام لسنوات طويلة. تخطيت عتبات طويلة من التردد والمقاومة التي تجعلني اتجنب حصص العلاج النفسي وخاصة الادوية، لكنني في النهاية استسلمت، واقتنعت انني في حاجة لمساعدة حقيقية، وانني لستُ بتلك القوة التي أتخيلها او أتوهم انها بداخلي. لقد تعبت من امتداد الأمر لسنوات عديدة، لا اعلم متى بدأت دوامة الاكتئاب تحديدا، ولكن ما كنت متأكدا منه انها جعلت حياتي صعبة حقا، فشل في مغادرة الفراش، سقوط حرة للطاقة، عدم قدرة على القيام بأي شيء، بؤس كبير، ظلام كبير كلما نظرت الى هذا العالم، عدم الرغبة في الحركة أو الضحك او الكلام، تفكير مستمر يومي في الموت، رأس يكاد ينفجر بالأفكار ليلا، وجسد هزيل نحيل لا اهتم به. قررت ان اضع حدا لكل هذا، أو أن أحاول جاهدا على الأقل.
بدأ الأمر مع رحلة طويلة للبحث عن معالج نفسي، رحلة مخيبة للأمل بشكل رهيب، من نفساني ينظر لساعته كل مرة، الى آخر يحاول أن يفهم مالذي اقوله دون جدوى: نفس الاسئلة المتكررة، نفس الطلبات، نفس طرق التحليل السطحية. المحللون النفسيون الامريكيون كانوا منفصلين عني تماما، وكأنني أراهم من بعيد جدا، وتموت تصريحاتي او كل افضاء لي على عبته جهلهم الحضاري أو الثقافي والهضاب الرملية التي اتيتُ منها. كانت الخيبة الاخرى مع معالجين من منطقتي الجغرافية ايضا، ابتعاد كبير عن واقع الاغتراب، والانبتات، و الإحساس بالانفصال عن محيطك القريب.
هل المشكلة مني؟ اصابني الغضب، اريد ان اقفز فوق هضبة الاكتئاب المرتفعة، ان اتسلق جبل الحزن واعبره، اريد ان اتحدث عن مواضيع اخرى وافكر في اشياء اخرى واكتب عن احلام اخرى.
مضادات الاكتئاب ساعدت قليلا، قليلا جدا، في التخفيف من وتيرة نوبات الهلع، لكنها حولتني الى زومبي، الى ميت/حي، اذهب الى العمل وأعود الى البيت، فاقدا مذاق كل طعام، وفاقدا القدرة على الضحك على أية نكتة. احسست ان تلك الحبوب البيضاء الصغيرة المخيفة قامت بعملية سطو على روحي، ودفنها في مصباح ما، كي أظن أنني بخير، الا انني قد اختفيت عن الوجود في حقيقة الامر، وتحولت الى مجرد صنم متحرك.
لم تنته رحلة البحث، على الرغم من اكتئابي الشديد، كان هناك محرك ما دفين داخلي يجعلني أواصل العمل على محاربة كل هذا، صوت داخلي دفين، صوت طفل موثق بحبال خشنة الى شجرة ما، يطلب النجدة، يطلب الحرية.
اضطراب ما بعد الصدمة، اكتئاب مقاوم للمضادات، قلق مزمن، وصعوبة في التنفس. تحولت كل عيادات الأطباء النفسيين إلى دوامة من نفس الكلمات والعبارات وفقرات التشخيص، حتى أنني حفظت اسئلتهم وما الذي سيقومون به والأدوية التي يصفونها للعلاج.
"هل جربت الفطر السحري" قال براد وهو يمسك بشيء ما في احدى المرات التي جلسنا فيها في إحدى الحدائق وسط بروكلين.
ما هذا؟
الا تعلم الفطر السحري؟ يا رجل، انت تفوت على نفسك تجربة كبيرة.
تأملت ما يمسكه بيده، فطر غريب الشكر، منتصب، متوثب، يشبه كثيرا مشهد انفجار القنبلة الذرية. ما الذي يمكن أن يقوم فطر ما، ينبت في أحد الجبال بالقيام به؟
قمت بقراءات عديدة على الإنترنت، مادة السيلوسيبين الموجودة في الفطر السحري أثبتت قدرتها الخارقة على معالجة الاكتئاب، و ثقوب الذاكرة، واضطراب ما بعد الصدمة، معظم المتطوعين ذكروا تجارب ايجابية جدا عن استخدام الفطر، وأنه قد "غير حياتهم".
لهاته الدرجة؟ أيعقل هذا؟ دراسات في جون هوبكنز ويال وهارفرد، كلها تتحدث عن نفس الأمر.
قام الأمل، أو اليأس، بتحريكي لتجربة هاته النبتة أو الفطريات العجيبة، هو بصيص أمل بقفز بركة الاكتئاب أخيرا، او يأس من لا يملك شيئًا ليخسره، وعلى استعداد للقيام بأي شيء، كل شيء، كي يعود مثلما كان.
كانت المرة الاولى التي جربت فيها الفطر السحري رائعة، صعبة الوصف صراحة، انتقل كل شيء إلى مستوى عجائبي حقيقي، كنت في prospect park، حيث الأشجار ضخمة الحجم قامت بالرقص، كانت الحشائش تنظر لي، تتحرك، تتنفس، تضحك، كل لون تضاعف عشرات المرات، أصبح الأخضر أخضرا حقيقيا، والاحمر قانيا، والسماء كانت تتحرك بسرعة كبيرة، تتشكل الغيوم في تشكيلات رائعة. ما اقتربتُ منه كان في أقصاه عودة للطفولة الاولى، أحاسيس الاكتشاف الاولى، بهجة لمس التراب، متعة مراقبة نملة ما تقضي يومها في العمل، الضحك على كل شيء، الدهشة الاولى التي تعتريك حين تلمس الرياح وجهك. لم اكن اظن ان لذاكرتي المتعبة تلك القدرة العجيبة على الاسترجاع.
أهي الذاكرة؟ أم هي مادة السيلوسيبين؟
قرأت في مقالة بحثية أخرى أن مادة السيلوسيبين الموجودة في الفطر هي التي تقوم في العادة بربط جذور الشجر مع الأرض من أجل امتصاص أفضل للأملاح المعدنية. ذلك ما قد اعتراني أثناء رحلة السفر الخيالية، أصبحت شجرة، أو جزءا من الطبيعة، اختفيت لسويعات ما، وتحولت إلى جزء من الأرض، وكان ذلك رائعا.
توالت التجارب، ولكن بكمية صغيرة جدا من الفطر السحري لا تتجاوز نصف الغرام الواحد، من أجل تحسين جودة التفكير، وتخفيض الأحاسيس السلبية والظلامية، وكان ذلك ناجحا بشكل مرعب، بشكل مخيف. هل قضيت على اكتئابي أخيرًا؟
كان للفطر السحري، والطبيعة، رأي آخر.
" جرعة البطل"
"جرعة البطل؟ مالذي تتحدث عنه؟"
" انت تستهلك الفطر السحري فقط كي تحسن مزاجك وتصبح مكتئبا بشكل أقل، لكن اسمعت عن جرعة البطل؟ حين تتناول جرعة كبيرة فأنت تعيد دماغك الى نقطة الصفر، تقوم برحلة طويلة وعميقة جدا، وتعود مثلما أنت، مثلما كنت، نقيا تماما، سيعالجك ذلك تماما."
أغراني الأمر كثيرا، أنا الذي يغرق تماما في أول عرض للمجازفة كما اعتدت حياتي كاملة، جرعة البطل؟ ما الذي يعنيه ذلك؟ هل تتحول إلى بطل خارق ما؟ هل ترى أشياء لا تستطيع رؤيتها وأنت في حالة وعيك العادية التي تشتغل بها يوميا في البيت والمحكمة والمتجر والمكتب ومع البشر؟
تناولت خمسة جرامات دفعة واحدة، وذهبت الى prospect park.
كان الفطر السحري غريب الشكل، بدا كأنه يتحدث لي حين أنظر له، يهمس لي أن كلني، التهمني، فأنا سأنقذك. ولم استطع مقاومة ذلك النداء كثيرًا.
لم يحدث أي أمر مختلف، حتى انني بدأت أصاب بخيبة أمل، بعد سويعة بدأت الألوان في التمظهر، وبدأ العالم في التجلي مثل التجارب السابقة، اشجار أكثر التحاما معي، الوان اكثر حياة، وموجة من الاسترخاء والسعادة الشديدتين.
كانت سماعاتي شديدة الالتصاق بأذني، وانطلق البوم Koyaanisqatsi المخيف، والذي كنت استمع له في أوقات ازماتي الوجودية، موسيقى تشبه النحت في الصخر، في الذات، أو الانفجار العظيم، او الرعب، او خليط من كل ذلك.
عدت للجلوس منتصبا، نظرت الى ساقي، كي أرى أنهما بدأتا في الذبول بشكل سريع، تحولتا الى اللون الأخضر، لون جثة هامدة، ثم الى الرمادي.
تأملت ذراعي، حصل نفس الشيء، أنا اذبل بسرعة، أنا أموت.
تحول كامل جسدي الى الأخضر الباهت، ثم الرمادي، أظلم كل العالم، اختفت الشمس تماما. حاولت انقاذ نفسي بالنظر الى قدمي مجددا، لكنها التصقت بالأرض، وبدأت في الالتحام مع التراب، تحولت تدريجيا الى جذع شجرة متصلب.
انتصبت واقفا، وأصبحت كل الحديقة الكبيرة مجموعة من الدوائر، يسير الناس الى الاعلى، ثم يعودون الى الأسفل، اصبح كل ما يحيط بي مجموعة من الاسطوانات، وذكرني الأمر بمشهد العالم في نهاية فيلم interstellar.
تحولت الشجرة الكبيرة الى فيل كبير، مخيف، يقترب مني شيئًا فشيئًا.
أخذت في العدو، اصوات تتناهى لي من بعيد، تهمس لي من بين الأشجار، اصوات مرعبة، قهقهات شيطانية، صراخ، عويل امراة من بعيد، نحيب طفل صغير لا يتوقف، صوت رصاص، قصف، انفجارات، مالذي يحدث؟
ادركت انني في مستنقع كبير، وانني لا استطيع الخروج منه، وقد لا أغادره أبدًا. هل تعاقبني الطبيعة على الاستخفاف بها؟
نظرت الى الاشجار في رحلة عودتي البائسة، فكانت تنظر لي، وكانت غاضبة، غاضبة جدا، ما الذي فعلته لها حتى تغضب بهذا الشكل؟
احسست ان العالم برمته يعدو ورائي، ان الاشجار تطاردني، وان الحيوانات الضارية المختبئة في الغابة قد خرجت من احراشها بحثا عني.
بلغت شقتي، كنت اتصبب عرقا بشكل غريب، العرق يتفصد عن كل مسام جسدي، بلغ رعبي ذروته، مالذي يحصل لي؟
حاولت فتح الباب، رأيت يدا معروقة مخيفة مسنة تتسلل من وراء الباب، تحاول الامساك بي، نفضتها بعيدا، ودلفت مترنحا.
انت تهلوس، لا تنس ذلك، ستستيقظ، سيذهب كل هذا.
حاولت عبثا طمأنة نفسي، إلا أنني منيت بفشل كبير، بدأت ذاتي، التي أعرفها، التي هي "أنا" في الانحسار شيئا فشيئا، وبدأت كل هاته الأفكار الشيطانية في السيطرة على عقلي.
هل أصبحتُ مجنونا؟
نظرت لنفسي في المرأة، وصرخت فزعا، كان وجهي شيطانيا، الشيطان نفسه، هو أنا، بقرون طويلة وانف ممحي وأنياب بارزة و جلد قرمزي اللون.
عدوت نحو غرفة النوم، قد تقوم قططي بمواساتي حين تعلم انني خائف كالعادة، لكنني لم اجدهما، لقد تحولا إلى وحشين حقيقين.
كان وجه قطي الوجه الأكثر إرعابا الذي قد يقدر دماغ بشري ما على اختلافه.
عدوت رعبا نحو الباب مرة اخرى، خرجت، اخذت في العدو الشديد. اريد الذهاب الى مكان ما، مكان بعيد، أي مكان، المهم ان ينتهي كل هذا.
عناكب ضخمة الحجم، بحجم سيارة، أخذت في الخروج من تحت الأرض، عناكب سوداء كثيفة الشعر تسير نحوي، دود اخذ في التهام ذراعي وعنقي والخروج من فمي.
دلفت أحد المتاجر وانا الهث، التقطتُ زجاجة من الماء، ولكنني نسيت كيف أدفع. لقد اختفى مفهوم الدفع من دماغي، ولم اعرف ما الذي علي القيام به، حتى انني صاحب المتجر أشار لي بيده أن اذهب، كأي مختل يدلف متجره منتصف الليل.
واصلت الهرولة، كانت المارة تتجنبني، تحاول السير في الجهة البعيدة عني، هل انا شيطان حقيقي مخيف؟
تقيأت الماء الذي شربته، ولكنه كان دما أحمر قانيا، يا الهي.
بلغت مرحلة من الجنون الحقيقي، وأصابني ذلك بالهلع: نسيت من انا، من اين اتيت، مالذي افعله هنا، وما الذي يحدث؟ نسيت مهنتي، لغتي العربية، نسيت حتى أين تقع شقتي، نسيت اسم هذا البلد، والحي الذي اسكن فيه، وتضاعف رعبي: سأظل هكذا الى الأبد، هل هاته هي تجربة المجانين والمشردين في الشوارع الأبدية؟ ما هذا السجن المخيف؟ نسيت حتى كيفية التبول، وماهيته، احسستُ أن هناك جسما ما بداخلي يريد مغادرتي، ولم أعرف كيف أقوم بذلك.
بدأت في المسير، كان كل شيء مرعبا حقا، كل وجه أتفرس فيه يتحول الى شيطان حقيقي، فأهرب عدوا، نجوت بأعجوبة، مرتين من حادث سير قاتل وأنا أعدو وسط الشارع، أحسست أن الجميع يعدو ورائي، يتفرس في وجهي، يريد ان يقبض علي ويقوم بطعني او قتلي.
لا زلت لا اتذكر كيف وصلت الى البيت مرة اخرى، وكيف ألقيت نفسي في الحمام، وفتحتُ الماء على مصراعيه، كي ينزل مدرارا فوق جسدي. نزعت ادباشي، وكان الماء النازل من الدش يشبه المطر.
عدت إلى بيتنا في سيدي بوزيد، شاهدت امي، أمسكت بي من يدي، قالت: لا بأس، وليدي، سيمر كل هذا.
انفجرت في بكاء طويل، التفت، رأيت نفس العناكب الضخمة، لكنها ويا لغرابة الأمر، لم تكن مخيفة، كانت تتأملني بشفقة شديدة، رأيت عيونها اللامعة، تنظر لي، مالذي حصل؟ ما الذي جعل وحوشا كهاته تقطنك، تسكن دواخلك؟ السيلوسيبين ليس السبب، السيلوسيبين لا يجعلك تهلوس، بل يريك حقيقتك، يُريك ما يتوجب عليك رؤيته.
أنت تحمل وحوشا ضارية، شياطين، ظلاما داكنا، وكل ما في الأمر أنك رأيت كل ذلك بوضوح.
غادرت العناكب في سلام، رأيتها تذهب، تنزل من شباك الحمام عائدة الى الحديقة في بروكلين، دون رجعة.
عدوت طويلا نحو واد الفكة الذي كان يقع على بعد نصف ساعة من بيتنا، وسبحت، سبحت بمهارة شديدة، أنا الذي لم اتعلم السباحة أبدًا.
بدأ العالم في العودة الى طبيعته، وبدأت الاصوات في الانخفاض، والصرخات في الانحسار بهدوء شديد.
تمددت في فراشي، اتى قطي وتمدد بجانبي، انه لا يزال قطا مسالما، ينظر لي في حب.
تحسست رأسي المبلل جدا، لا يزال في مكانه، تأملت ساقي، لم تعد ذابلة ميته، تأملت أصابعي، لم يعد الدود ينخرها.
أصابتني سعادة مفاجأة حقيقية: كم هو جميل أن تكون حيا، أن تكون أنت، أن تكون على ما يرام. كيف نسيت ذلك بكل هاته السهولة؟
أقرأ وأنا أتخيلك وأضحك
ReplyDeleteمن المحرج بالنسبة لي أن أصف هذا النص بالعظيم احتراماً لمرارة التجربة التي خضتها؛ لكنه كذلك بالفعل.
ReplyDeleteأتمنى أن تكون أفضل حالاً الآن يا محمد 🙏🏻💙.
سعيدة جداً بعودتك للكتابة، وأكثر سعادة بامتنانك لشعور العودة. أعتقد أن أزمة الإنسان الحديث تكمن في وجوده في هذه الحياة التعيسة، ولكننا بحاجة للمقاومة. المقاومة ليست بالضرورة حرباً، بل قد تكون أبسط من ذلك بكثير. كن بخير حمادي ♥️
ReplyDeleteالنص بديع جداً. انت كاتب رائع جداً.
Deleteطبيبي يتفاعل معي بكلمتين لا اكثر: لا حول ولا قوة الا بالله، الصبر.
ReplyDeleteكنت اتساءل في حيرة: ابعد ما وصفت من آلامي وسوداوية أفكاري، لا يجد كلاما عدا ذلك؟ ما معنى ان يدرس كل تلك السنوات لمحاولة فهم النفس البشرية، ثم يستنجد بعبارات العامة الجوفاء؟
نصك هذا يعبّر عنّي، ويدخل في نفسي شيئا من الطمأنينة. هناك من يفهم ويعي ويدرك آلامك في مكان ما.
لروحك البهجة والفرح العميم...