سفر

 أنا في واشنطن الآن، ويجب أن أعود الى المنزل، ولم أقتن تذكرة العودة.

كنت في احدى السفارات لطلب تأشيرة دخول، كالعادة، نفس النظرات، نفس الأسئلة، لماذا أنت قادم الى هنا، كم ستظل في هذا البلد، متى تعود؟ هل أتيت من قبل الى هنا؟ نريد بصماتك، ابهامك، اصابعك الأخرى دون الوسطى، كم أردت وضع الوسطى فقط على آلته. اجلس، نريد تصويرك، مِل الى اليمين قليلا، لا تغلق عينيك، لا تتحرك، تراجع الى الخلف أكثر، لا تلمس الزجاج بيني وبينك، حادثني بالميكروفون الذي بجانبك. أين تأمينك الصحي، أين كشوفات حساباتك البنكية، هل هذا حسابك البنكي الوحيد؟ لماذا أنت في أمريكا؟ في أي كلية تدرس؟ جوازك سيظل معنا، ثمانون دولارا، مع السلامة.

أخرج ململِمًا أوراقي بعد انتهاء المقابلة التسولية، أسوي قبعة رأسي وأضع السماعات الكبيرة في محاولة بائسة لتدفئةٍ مضاعفة لأذني، أتوجه نحو منطقة أدامز مورقن، أخبرني سائق التاكسي أنها احدى المناطق الرخيصة في واشنطن، بعد أن ملأ رأسي عن بالحديث عن بلده كوريا الجنوبية وهجرته منها حالما بغد أفضل بعد كان صاحب مطعم هناك لينتهي به الأمر هنا سائقًا.

تتغير الشوارع ، وترسم ملامح جديدة مغايرة كثيرة للمدينة الصغيرة التي أدرس بها، تتبدل الوجوه، ويتحول أغلبها الى اللون الأسمر، أفارقة-امريكيون ينتشرون في كل مكان هنا، يبدأ وجه الفقر القبيح بالبزوغ، بعض الفضلات تطل من بعض الأنهج، يجلس بعض الشباب أمام أبوات البيوت تماما مثلما نفعل في مدينتي، ينظرون اليك مليا، ثم يواصلون الحديث. 

أدخل احدى الحانات الصغيرة. مرحبا، أريد بيرة، هل لي ببطاقتك الشخصية؟ لا أملك ، جواز سفري في السفارة، آسف اذن، لا نستطيع أن نقدم مشروبا كحوليا لك،أنا املك وثيقة رسمية اخرى فيها تاريخ ميلادي، يتأملها، يسالني بسرعة عن تاريخ ميلادي، أجيبه، يعيد الورقة قائلا: سأثق بك، لكن لا تخبر أحدًا بذلك.

أتامل مرتادي الحانة، الجميع يتأمل هاتفه الجوال، يكرع من البيرة ثم يعود الى الفايسبوك أو الواتساب، قطيعة مع العالم الخارجي، وجوه محنطة حزينة، أغادر، أذهب نحو المحطة الكبيرة، تتجمع القطارات والحافلات هنا في نفس المحطة الضخمة ذات الأبواب الكبيرة والطوابق المتعددة والمحلات المنتشرة في كل مكان، أذهب لاقتناء تذكرة سفر، مائة دولار، مائة دولار؟ أي ثلاثمئة دينار من أجل كرسي على باص لمدة خمس ساعات؟ هل أنا مسافر بالطائرة؟ تتأملني الموظفة بوجه بارد، ثم تشيح وجهها متأملة طلاء أظافرها الجديد: هل ستشتري التذكرة ام لا سيدي؟ نعم نعم، اللعنة على أبو هذا البلد، أشتم بصوت منخفض وأنا ابتسم لها، تبتسم لي ابتسامة صفراء، ما أحلى أن تشتم الناس هنا دون أن يفهموك، يلعن أبوكم جميعًا.

الباص لن يأتي الى في الصباح الموالي، أي بعد ثلاثة عشر ساعة، أذهب الى أرخص المحال كي آكل شيئًا ما، شيئًا، وليس طعامًا، ماكدونلدز، يتجاهلني البائع، أقف طويلا، يأتي ، أتأمل القرطين الكبيرين على أذنيه، اسنانه الفضية المركبة:

-I’d like to order two cheeseburgers and a small coke,

يضع سبابته على اذنه دون أن ينظر لي :

-I aint hear ya bud,what?

أرفع صوتي، اريد سندويتشين وكوكاكولا صغيرة، ثلاثة دولارات، تبا لك، ولهذا البلاستيك الذي تبيعه لي، يدخل بعض المراهقين للمكان، يصيحون كثيرا ويتكلمون كثيرا، يقفز أحدهم، يملأ الثلج في الكأس ويرشق به أصحابه، أحاول الأكل متجاهلا، يأتي مسرعا لي: هل لي أن أخذ مناديلك؟ طبعا، خذهم أيها المعتوه، سرواله الأول ينحدر تحت مؤخرته كاشفا عن سرواله الثاني، مما يجعله يجري بصعوبة كبيرة، ويقع ضاحكًا. تقبل امراة مسنة، تريد مني نقودا، أقتسم معها الفكة التي بمحفظتي، تمسح أنفها بعنف وتغادر مهمهة

أقرأ اللوحة المعلقة فوق: ممنوع الجلوس لأكثر من ثلاثين دقيقة، أغادر باحثا عن مكان أجلس فيه كل هاته الساعات، يسلم علي شاب أسمر قائلا: أريد الذهاب الى … ( لم افهم اسم المكان) ولا أملك النقود، هل لك بمساعدتي بدولار، ذكرني بشخص كان يتسول بنفس الطريقة في بلدي في محطة برشلونة، معنديش ركوب ونحب نروح. أعتذر منه. أحشر نفس في أحد الكراسي ببوابة من بوابات المحطات، تمضي ساعة، يقبل شرطي نحوي: سيدي، سنغلق هاته البوابة، هل لك بالمغادرة؟

ينظر لي شزرا وأنا أتحرك، أبحث عن مكان آخر أجلس فيه، أجد في الطابق العلوي المحطة المخصصة للحافلات، أدخل اليها. الجميع، دون استثناء، من أصحاب البشرة الملونة، هل الفقر هنا أسود فقط؟ من سيستقل باصا في هذا البلد غير الفقراء؟ وثمن السيارة لايتجاوز الألف دولار. يحاذيني شخص ضخم الجثة،يطلب مني دولارًا، أعتذر منه أيضًا، يصمت ثم يتمدد على المقعد الخشبي ويغط في نوم عميق، بعض المسافرين نام بعمق أيضًا، غيرهم يشاهد التلفاز باستلاب حزين، بينما أخذ اثنان او ثلاثة كتبا من الرفوف في المحطة وأخذ يقرأ.

تمر بعض الساعات في مشهد يكرر نفسه، يقبل شرطيان ، يصرخ أحدهما: من لا يملك تذكرة سفر تتوجب عليه المغادرة.

يبدأن في طرد المتشردين الباحثين عن مأوى من المطر، يدفع شرطي أحدهما ، أتأمل المشهد في صمت، يطلب مني تذكرتي، أسلمها له في صمت أيضًا، يعيدها لي ثم يوصل الصراخ طاردا من لا ملاذ لهم من المطر.

أحاول النوم، أفشل في ذلك، تختلط الصور والذكريات بصوت التلفاز وهمهمة بعض المسافرين  وصراخ رجل المحطة عن الوجهة القادمة كل ساعة، الى جانب شاب أقبل وفتح موسيقى الراب بأقصى صوت ممكن من جواله، مرددا الكلمات مع المغني بنشاز قاتل، تتردد الألوان برأسي، أحس أن للصداع لونا، بل ألوانا، صداع أخضر وصداع أحمر وصداع أزرق وصداع أبيض، يتضاعف الألم برأسي، ويزحف نحو ظهري وركبتي اليسري، أفشل في التمدد، أغطي وجهي بقبعة رأسي باحثًا عن النوم، لكن ذلك يستحيل وسط الضوء الشديد.

يقبل الباص، أجد بالصدفة زميل الدراسة في احدى الصفوف، يسلم علي بحرارة ويقدم لي زوجته، كيف حالك؟ بخير، انا ذاهب للوس أنجلوس ، هنيئًا لك، أودعه وأركب الباص. 

أبلغ منتصف الطريق بعد ثلاث ساعات، يجب أن أستقل باصا آخر هنا، يعلن عون المحطة عن تأخر الباص لعطل فني عبر ميكروفون المحطة، أجلس، أتوجه نحو الموزع الألي، أضع دولارا، أريد قطعة من البسكويت، تتدحرج القطعة ثم تقع في المنتصف، هكذا؟ أترفضين النزول اليّ؟ أحاول تحريك الموزع، لكنني أفشل في ذلك، أتأمل قطعة البسكويت طويلاً، أحس بأنها تنظر اليّ ضاحكة، ثم يعلن العون عن قدوم الباص بعد تأخير دام ساعتين، فأغادر بسرعة.

أبلغ المنزل متهاوي القوى، أريد أن أنام، أن أنام كثيرًا، لكنني أجد نفسي أمام حلقة جديدة من سلسلة بلاك ميرور، المرآة السوداء، تضحكني دائما ترجمة عناوين الأعمال الفنية والسينيمائية الأمريكية للعربية،المرآة السوداء، الفهد الأسود، الرجل الخفاش، حين التقيت بأمك، الواقع بين النجوم، ما هذا المخرج؟ كل شيء يتحول حين تغير اللغة، المعنى، والذات ، والمادة، أنا لست أنا حين أتحدث لغة غير العربية، أتحول الى كائن بليد.

أحاول النوم وانا اشاهد الحلقة، لأفاجئ بأنني جزء منها، وأنني مطالب بتحديد خيارات معينة تعبث بحياة الشخصية البطلة، ستيفان، مصمم ألعاب فيديو، يقدمونه لي على طبق سينمائي كي أتحكم بحياة المسكين، هل تكسر حاسوبك أم تسكب عليه الشاي، هل تذهب للطبيب النفسي أم تتجاهل والدك؟ أم تقتله؟ أم تقفز من الشرفة العالية؟ بينما يبحث المسكين ستيفان عني ، كي يقوم بجريمة قتل في الأخير، ويدخل السجن.

هل قام هو بذلك أم قمت أنا بذلك؟ من يحدد الاختيارات؟ من عبث بالطرف الآخر؟ هل عبثت أنا به أم عبث بي هو مع المخرج وبقية الممثلين؟ حين يعلمون أنهم يقدمون عملا سينمائيا تجاريا ، سيجنون منه المال، بمجرد ايهامي أنني طرف في لعبة مخيفة، وأن مسألة الخيارات كذبة كبيرة، وأنك تختار من بين خيارات محددة سلفًا، أي أنك لا تختار أبدًا في النهاية.

يتضاعف الصداع كي يبلغ مرحلة التعذيب النفسي، أحاول النوم ، بينما يختلط كل شيء في رأسي، أحس بنوع من الراحة لانني لا املك جواز سفر أخاف على ضياعه حاليا، أنا بلا هوية، بلا انتماء. أغوص وسط تلك الفكرة، وأنام.



Comments

  1. In such games, you can to|you presumably can} meet live dealers, who also entertain with their charisma and the distribution of cards or operating the ball in roulette. The primary benefit remains the unique alternative to really feel exactly the ambiance that was present in elite gambling institutions on the end of the last century. We counsel Mermaids Millions, Bars and Stripes, and Avalon for slot machine lovers. Ultimate Texas Hold’em with a live supplier is great these who|for many who|for individuals who} like table 1xbet games.

    ReplyDelete
  2. وانت تقدم لنا تحفاً ادبيه بكل تفاصيلها الصغيره الواقعيه وتأخذنا لنتخيل كل شيء معك ستجني من بعدها اعجابنا بك دائماً♥️♥️

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

تحت الضغط

وِحدة

هلع