Allegro non troppo
Allegro non troppo
الى أين قد تحملكَ الموسيقى؟ لا أعلم، لكن هاته المقطوعة مثلا، تحملك الى كل متناقضاتك.
صدق من قال أنه يجب علينا الامتنان للموسيقى بالكثير، كيف كانت ستكون حياتي دون موسيقى؟ جحيمًا كبيرًا. تخيل أن أستعمل مترو الأنفاق النتن الصدأ الغبِر كل يوم دون موسيقى تصدع في أذني؟ او ان أتمشى في الحديقة الكبيرة القريبة من محل سكناي دون باخ أو هانز زيمر أو بوشناق ضاربة مرابض رأسي؟ سيكون ذلك كارثيا. للموسيقى قدرة سحرية على تحويل اليومي الى استثناء، وعلى تحويل المشاهد العادية الى لقطات من فلمٍ سنمائي.
اليومَ، كالعادة، قمت بمحاولة لتجميل واقعي اليومي، ووضعتُ السماعات في أذني كي تزين الموسيقى المشاهد اليومية التي أراها، المتشردون النائمون على الطريق، سيارة البوليس وهي تلاحق بعض الهاربين، الفضلات الملقات على قارعة الطريق في كل مكان، وأركان المدينة الهائلة المرتفعة حتى ناطحات السحاب مطلة على الله محاولةً الحديث معهٌ مباشرة.
تمشيتُ وتمشّيت، انعطفت مع شارع ميرتل الواسع، حيث تنتشر المطاعم والمقاهي والحانات على الجانبين،وكذلك مدخنو الماريخوانا الكُثر. في النهاية، الماريخوانا هنا ليست مباحة، لكنها لم تعد مجرمة، اي انه من الامكان استهلاكها، ولكن في هدوء وصمت ايضا، مما يذكرني في تناقضنا التونسي المشهور مع الخمر: "وراس هالمعصية".
انتهى بي شارع ميرتل الى وسط بروكلين، ثم الى شارع فلاتبوش حيث تنشر الفضاءات التجارية الكبرى، والبنايات الشاهقة، بينما يسيرُ الناس تحتها كالنمل، كالمُعدمين. رأس المال، في تمثله المادي المخيف والجاف والصلب، في بنايات بالحديد والصلب والزجاج، بدى مخيفا جدا مقارنة بصِغر حجم البشر وظآلتهم، وسيرهم الهوينى تحت البنايات في نوع من الخضوع لسلطة السوق المرعبة،و علاماته الاشهارية الضخمة، واعلاناته التي تلاحقك على كل الجدران، حتى أنني أصبحت أسير أو أعدو في مترو الانفاق كالمجنون، والاعلانات تلاحقني في كل مكان، على الجدران، والمعلقات، والشوارع، في الجو، والأرض، والبحر، وتحت الأرض، على هاتفي الجوال وفي مذكراتي وحتى حين اشتري كتابا عبر البريد.
هربت كثيرا، عدوت، بلغت جسر بروكلين الشاهق المرتفع بين جزيرتي بروكلين ومانهاتن، صعدت هناك حتى بلغت الممشى الطويل للمارة على الجسر. مشيتُ، نظرت الى البنايات الشاهقة والى الماء الممتد تحتي. هل ألقي نفسي من هاهُنا؟ هل سأصعدُ فوق تلك البنايات ان القيت نفسي؟ أم سأنزل تحت الماء كثيرا. وما الفرق؟ مالفرق في كوني حيا أو ميتا؟ ماهي قيمة كينونتي وسط هاته المليارات من الناس التي تسير وتعيش وتحيا وتموت وترحل دون نهاية؟ أنا رقم في النهاية، لا أكثر. لن أستطيع أن أكون شيئا آخر الا حين أصبح الكون برمته، حين أكبر وأكبر، وأبتلع المجرات والأكوان والمدارات والشموس والنجوم والكوسموس والثقوب السوداء.
Allegro non troppo
صعود ونزول، ارتقاء وانحدار، سماء بعيدة وأرض سحيقة
Allegro non troppo
الله هو أنا، وأنا هو الله ، كلانا يعانق الآخر في وحدة أبدية
Allegro non troppo
حتى الرمق الأول، والرمق الأخير، والولادة حين الموت، والموتِ حين الولادة
Allegro non troppo
هل الحب هو ما يجعلنا نحيا، ام ما يجعلنا نموت؟ أهو ما يربطنا بالآخر والغير والعالم وأنفسنا؟ أم أننا نبني روابط وهمية غير موجودة في محاولة للتحرر من أنفسنا؟
Allegro non troppo
أريد النزول للسماء، والصعود للأرض، أن اصبح لا شيئا وكل شيء.
أريد خاصة ، أن أتوقف عن ممارسة دعارة البحث عن الكمال، ان أبيع راحتي النفسية مقابل الانجاز، أو ان أقوم بممارسة الجنس مع العالم كي أنجب رضاء عن النفس، او أن اقبل بمبلغ مالي من أجل امتاع عقلي الزائف، ووغيَ الوقتي، وادراكي الذي اخلتقه دون حق.
أريد أن أكون دون كمالي، أن اعترف بأخطائي جميعا، وأفرشها على الطريق، ان أتوقف تماما عن تزييف ذلك، أن أتحول الى ضوء عابر سريع، لا بشر ركيك رزين من لحم ودم، يحاول دوما القفز خارج جسده، في محاولات فاشلة في أجمعها، باستثناء بعض الشعر والموسيقى والحب التي تتقافز من جسدك أحيانا، وتحررك لدقائق معدودة.
أنا غيلان، أريد بناء سد على أرض قاحلة بور، وأنا ميمونة المخنوق، وسد صهباء.
أعيديني ايتها السماء اليك، وابعديني عن الارض التي تجعل مني صغيرا، صغيرا جدا، بعيدا عن سديم الكون الذي خلقني واوجدني.
قاطع سبل افكاري صوت رقيق:
" هل يمكن أن تعيرني سيجارة؟"
التفت اليها، كانت تشيح بقناعها عن وجهها، دون اذن، منتظرة اجابتي، في ابتسامة بريئة.
"سيجارة؟" همست.
وضعت يدي داخل جيبي، ثم تذكرت أنني، لا أدخن.
صعدت فوق الجسر، فوق ضفته اليمنى، ناظرا الى النهر المسمى " النهر الشرقي" ، والسماء تلتحم مع الشمس ومع النهر في ضوء ساطع باهر.
تراجعت الفتاة في خوف بريء وهلع، بينما قفزتُ، في شجاعة كبيرة.
❤️🌸
ReplyDelete