شذرات من ديسمبر

أنا هنا، لن أكون محلل سياسيا، ولا باحثا
في علم الاجتماع السياسي،
أو منظرا، أريد فقد أن أتكلم،
أن أقول ما أريد قوله كشاهد على
ما حدث أواخر ديسمبر سنة ألفين
وعشرة.
لا تعتبر ما أكتبه مقالا،
بل مجرد خواطر، لا تخضع
لميكانزمات التحليل،
ولا للنقد العلمي الممنهج.


الثورة، باعتبارها فعلاً أدبيا
جماعيا، هي مقابل للفعل
الأدبي الفردي ( الأخلاق) ،
أي أنه تمثل مادي يقوم به الإنسان
لممارسة رغبته في الرفض، والتعالي،
والحلم.
لكنني، بعدسة المراقب من بعيد،
أرى كالعادة انقسام الناس المتجدد
سنويا في كل سابع عشر من
ديسمبر، الكثيرون يشتمون البوعزيزي
ومن أنجب البوعزيزي، متناسين
أن البوعزيزي لا دخل له لا من قريب
ولا من بعيد فيما حدث في 2010
و 2011، بل ان الاجتماع الشعبي الذي
انعقد أمام مقر السلطة ( الولاية)
كان هو الشرارة الفعلية،
والقرار الجماعي، للقيام بتمرد.
يقوم الناس هنا بشتم كل ما
علاقة له بالاصطلاح
الثوري من الجانب اللغوي، كلمات
"الثورة" ، "الانتفاضة" ، "الياسمين" ،
" ثورة الحرية والكرامة" ،
الى آخره، كلها تثير امتعاضهم،
وتسبب لهم عدم الارتياح،
وهذا طبيعي، لأنها تلمس
ثوابتهم، أساس هجوم الناس هنا
هو ليس أخلاقيا بتة، بل هو ذو
مرجعية اقتصادية، من كان متمعّشا
من النظام السابق/الحاضر،
من كان محافظا على هامش
من الهدنة الاقتصادية مع النظام القمعي،
بمقاربة العمل مقابل العيش،
وتوفير الحاجات الاقتصادية
الأساسية، في ظلل علاقة عبودية
ممأسسة، أحس بالفزع
بتغيير العلاقات الكلاسيكية
مع السلطة السياسية بعلاقة مهتزة
فيها تأصيل للاحتجاج والرفض.
وأصبح معيار نجاح الثورة
من عدمه هو ما تحققه من
إنجازات اقتصادية، وهو للأسف
مغالطة كبيرة دوغمائية صرفة،
لنواجه الأمر بالحقيقة
التاريخية: طالما كانت الثورات
التي تجلب التغييرات
الكبيرة تاريخيا، منعرجا لحروب أهلية
ومجاعات، مثلما
حدث في روسيا وفرنسا وألمانيا،
لم تعد الثورة ولو يوما
واحد، بالرخاء، بل هي تغيير جذري
لموازين القوى لا
أكثر. بالتالي ، فإن الربط السطحي
بين الثورة، والوفرة
الاقتصادية هو غير ذي معنى،
وهو سلاح من أسلحة
البروباغندا طالما استعمله الثائرون
بعد وصولهم
للسلطة. مما جعل الناس حاليا في تونس،
في حالة من الشتات
بين النتيجة التي يتوقعونها وبين
الواقع، وضياع مساحة
الأمان الضيقة مع نظام كان لا
يقل وحشية عن النظام الحالي
في النهب والسرقة والمحاباة
والتعذيب والقمع ، بل انه قد نجح
اليوم في اعادة إنتاج نفسه في
صور مختلفة عبر نفس رجالاته
الموجودين في كافة مناصب
الدولة من الوزارات و السلطة
التشريعية ( بن سالم، شلغوم،
العبيدي وغيرهم..) . النظام موجود
ولا يزال قائما ولا يغيب عنه إلا
رجل واحد لم تكن له
اضافة كبيرة على الساحة
السياسية سوى الصورة العامة
للعموم، فنظام بن علي،
أقوى من بن علي نفسه.
الشق الثاني هو من قاموا
بالتحرك فعلا، والذي يقودهم ا
لوازع الأدبي الكبير ( السياسية) ،
قلت السياسة هنا
لا الثورة، لان الثورة بطبيعتها
فعل سياسي صرف
نابع عن محركات أدبية/ أخلاقية،
من الإنسان الذي
كان يعاني من كوجيتو
مجروح على حد قول
المسكيني، أي هوية مجروحة، تجعله
لا يسال نفسه " من أنا؟ "
بقدر ما يريد مواجهة الاله الجديد
في العالم: الدولة، بعد موت
اله الأديان الكلاسيكي وغيابه
عن السلطة المباشرة وتحوله الى
أداة سياسية طيعة للتجييش.
هؤلاء الثوريون فعلا، والذي
رأيت منهم الكثير في سيدي بوزيد
حين كنت موجودا في
الجهة كامل النصف الثاني
من ديسمبر 2010، او في صفاقس
يوم الاضراب العام، أو في تونس العاصمة
أثناء اعتصام القصبة،
يعانون أزمة هوية مجروحة
الآن أيضا، لأننا لم نواجه الحقيقة
عراة وهربنا منها دوما:
ثورة ديسمبر- جانفي فشلت،
كما فشلت ثورات عديدة في
التاريخ، لأسباب واضحة وسهلة التفسير:
الغياب الكامل لقيادة فعلية،
ضعف الانتظام والعشوائية،
التشتت بعد هروب
بن علي وترك الزمام لقوى
سياسية لم تكن تزن شيئا
على الساحة للعب
بمصير حراك شعبي كامل،
جبن كبير وخوف من القوى التي تمردت
أن تكمل مسيرة التمرد عبر أدوات
ثورية أخرى: السيطرة على
السلطة، افتكاكها، إقصاء القوى
المضادة للثورة، مسك
زمام الأمور، والتحلي بالشجاعة
التاريخية، التي غابت،
فراكمت لنا نظاما مشوها بين
إسلاميين تعطشوا
للسلطة طويلا ونظاما سابقا
أعاد إنتاج نفسه
والتحالف مع اليمين الإسلامي.،
روج لنا أسطورة
الانتقال الديمقراطي السلمي الجميل
المُرضي للغرب،
اي تحويل الثورة الى مؤسسات،
الى ادارة بيروقراطية
بشعة، الى ملفات ومكتب ضبط
وانتظار وهيئات ودوائر،
جعلت من كل ما حصل أضحوكة،
وانطلت حيلت
القوى الخارجية علينا، كي نظل في منطقة البين بين،
فلا نحن نثور فعلا، ولا نحن قاعدون.


ما أعتبره أهم من كل ذلك،
هو ما يحدث في عقول
التونسيين الآن، والذين
يجهلون قيمته للأسف:
القدرة على التفكير، على
التساؤل، على طرح سؤال
الهوية، على السب والشتم
والرفض والنزول للشارع، على التحرك
والغناء واقامة العروض الفنية
دون حدود بل وكسر الكثير منها، ذلك
هو الوازع الأدبي الحقيقي للتغيير،
لا وازع قفة البيض وزيت الزيتون
والطماطم والفلفل، كل الثورات
حتى بعد فشلها تزرع جذامير تواصل
التحرك: ثورة 1905 فشلت فشلا
ذريعا في روسيا، لكنها
نجحت نجاحا ساحقا سنة 1917،
هل ترى كم الفارق؟ اثنا
عشر سنة كاملة، وان غدا لناظره
لقريب. ستولد القيادات،
ستُخلق، سيغادر الناس المقاهي
ولعب الورق، وسيواجهونكم،

وستكون النتائج مختلفة كثيرا،
فالتاريخ لا يصنع الا بأنهار من الدماء.

Comments

Popular posts from this blog

تحت الضغط

وِحدة

هلع